"بلوك، بلوك، بلوك"، هذه هي الطريقة التي نصحت الإعلامية المصرية رضوى الشربيني الفتيات باتباعها عند التعامل مع العلاقات العاطفية التي ثبت أنها مؤذية أو ضارة لهن، عبر برنامج "هي وبس"، حيث قالت الشربيني: "اللي ما يقدركش ما يستهالكش، فيه حاجة اسمها بلوك عارفاها؟ بلوك على فيسبوك، بلوك على إنستغرام، بلوك مكالمات، بلوك، بلوك، بلوك".(1) لتلقى عبارة "بلوك، بلوك، بلوك" شهرة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتُستخدم بشكل جاد حينا وبسخرية أحيانا.
لعلك صادفت من قبل مشاركة كتبها شخص ما على حسابه على أحد مواقع التواصل الاجتماعي يُهدد خلالها أصدقاءه أو متابعيه بأنه سيقوم بعمل "بلوك/حظر" لمَن يُخالفه الرأي في موضوع ما أو لا يُشاركه وجهة نظره تجاه أمر أو شخص معين، وربما تكون قرأت منشورا لأحدهم يقول إنه قد قام للتوّ بـ"تنظيف" حسابه من أشخاص يحملون رأيا أو اتجاها معينا لا يُشاركهم هو رؤية صوابه، بل ويُضيف أنه يشعر بالراحة والسعادة بعد أن حذف وحظر هذه الحسابات.
يمكن القول إن "البلوك" أو حظر شخص ما على وسائل التواصل الاجتماعي أصبح بمنزلة "انتقام" العصر الرقمي. ليس عليك أن تتشاجر مع مُخالفك، أو تُجادله، أو تكلف نفسك عناء اختيار الرد على شخص أهانك أو آذاك، فقط يُمكنك أن تحظره وستشعر بعدها بأنك قد انتقمت لنفسك أو انتصرت لرأيك ومعتقدك.
الانتقام السهل
حينما تختار حظر شخص ما فأنت تمارس عادة بشرية قديمة جدا وهي "الرفض الاجتماعي"، الذي من المحتمل أن يؤثر على الرفاهية النفسية للشخص الذي يُرفَض. في كثير من الحالات، ينوي الشخص الذي يقوم بالحظر بالفعل إيذاء أو معاقبة المحظور نفسيا، وهو ما يتحقق له في الكثير من الأحيان، فقد يعاني الأشخاص المستبعدون اجتماعيا من الألم العاطفي، حتى ولو لفترة قصيرة، بغض النظر عن مقدار ما يتمتعون به من الثقة بأنفسهم والاحترام لذاتهم.
السبب في ذلك هو أن الحظر أو الاستبعاد الاجتماعي يهاجم أربعة احتياجات إنسانية في الوقت نفسه: الحاجة إلى الانتماء، والقدرة على السيطرة على المواقف الاجتماعية، والحفاظ على احترام الذات، وأخيرا شعور الشخص بأن وجوده ذو معنى. لذلك فإن الكثير من حالات القلق والاكتئاب قد يقف وراء الرفض الاجتماعي أو الإساءة الاجتماعية ومن ضمنها ما يحدث على صفحات مواقع التواصل.(2)
يقول مارك ليري، أستاذ علم النفس وعلم الأعصاب في جامعة ديوك: "لقد أدرك الناس مدى اهتمامنا بالقبول الاجتماعي، هذا الاهتمام له تأثير واضح في كل ما نقوم به تقريبا".(3) عندما تعمق الباحثون في جذور الرفض، وجدوا أن ألم الاستبعاد الاجتماعي أو التعرض للرفض لا يختلف كثيرا عن ألم الإصابة الجسدية، فمن خلال الأبحاث القائمة على تصوير الدماغ، وجد الباحثون أن أولئك الذين تعرضوا للرفض يُظهِرون نشاطا متزايدا في مناطق الدماغ نفسها التي تُظهر نشاطا متزايدا عند التعرض للألم الجسدي.(4) في السياق ذاته، توضح جمعية علم النفس الأميركية أن للرفض تداعيات خطيرة على الحالة النفسية للفرد وعلى المجتمع عموما، وأن الرفض الاجتماعي يمكن أن يؤثر على العاطفة والإدراك وحتى الصحة الجسدية.(3)
لا يقف السوء عند هذا الحد، ففي بعض الحالات المتطرفة، يصبح الأشخاص المنبوذون أحيانا عدوانيين ويمكن أن يتحولوا إلى العنف. هذه النتيجة توصل إليها ليري وزملاؤه عام 2003، عندما قاموا بتحليل 15 حالة من حالات إطلاق النار في المدارس، ووجدوا أن جميع هذه الحالات، باستثناء حالتين، كانت تعاني من الرفض الاجتماعي.(5)
مثل الجوع أو العطش، ظهرت حاجتنا إلى القبول بوصفها آلية للبقاء. يقول ليري: "خلال ستة ملايين سنة من التطور البشري، لم يكن بمقدور الإنسان البقاء على قيد الحياة بمفرده". مع تطور الحياة اليوم، أصبح بمقدور الشخص أن يعيش منفردا، لكن هذا الوجود الانفرادي ربما لن يجعله يشعر بالسعادة.
الحظر الذي يُشعرنا بالارتياح
على الجانب الآخر، فإن ممارسة الحظر ضد الآخرين تشعرنا بالارتياح، ببساطة لأن الانتقام "حلو" المذاق. وبما أن الحظر يُعَدُّ في سياقات مُعينة شكلا من أشكال الانتقام، فإن المشاعر التي يُشعرنا بها الانتقام تنطبق عليه. يمكن اعتبار الحظر بمنزلة طرد شخص ما من مجالك الرقمي، وكأنك أغلقت باب بيتك في وجهه مباشرة.
للتعرف على تأثير الانتقام على عقولنا وسر النشوة التي يمنحها، فحص مجموعة من الباحثين السويسريين أدمغة الأشخاص الذين تعرضوا للظلم خلال لعبة خاصة بالتبادل المالي، بعد أن أعطاهم الباحثون فرصة للتفكير في معاقبة شركائهم الجشعين. وبينما كان الضحايا يفكرون في الانتقام، رُصد النشاط في أدمغتهم، ليكتشف الباحثون فرطا في النشاط العصبي في "النواة المتكئة" (Nucleus accumbens)، وهي منطقة من الدماغ معروفة بمعالجة المكافآت. وقد وفرت الدراسة التي نُشرت عام 2004 في مجلة "ساينس" (Science) تأكيدا فسيولوجيا لما يعرفه الكثيرون، وهو أن الانتقام له مذاق "حلو" ويُسبب شعورا باللذة.(6)
أحد الأسباب الرئيسية وراء رغبتنا في الانتقام هو تقليل مستويات التوتر لدينا. يرى الباحثون أن الرغبة في تقليل التوتر هي آلية للتكيف، خاصة عند حدوث حدث صعب أو مزلزل عاطفيا.(7) من ناحية أخرى، يبدو أن الأشخاص الذين تعرضوا للأذى أو الخيانة يعتقدون أنه إذا عانى الطرف الآخر فإنهم سيشعرون بتحسن وسيقل ألمهم العاطفي. رُبما يكون "الحظر" هنا هو وسيلة إيلام الشريك أو الزوج السابق أو الصديق من جهة، وحماية النفس من استمرار وجوده من ناحية أخرى.(8)
لكن على الجانب الآخر، لاحظ علماء السلوك أنه بدلا من إخماد العداء، فإن الانتقام يمكن أن يُطيل فترة عدم الرضا، وأن مجرد إيذاء "الجاني" لا يكفي في النهاية لإرضاء روح الانتقام لدى الشخص المُنتقم. ووجدوا أيضا أنه بدلا من تحقيق العدالة، غالبا ما يخلق الانتقام حلقة مُفرغة من الانتقام، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن التوازن الأخلاقي لأحد الأشخاص نادرا ما يتوافق مع التوازن الأخلاقي لشخص آخر. فما تراه عدلا، يراه الطرف الآخر ظلما ويسعى لأخذ حقه منك، وهكذا تدور دائرة الانتقام بلا نهاية.(6)
هنا تحديدا يختلف الانتقام الافتراضي عن الانتقام الواقعي، فبعد الضغط على زر الحظر رُبما ينتهي كل شيء، خاصة إذا كانت علاقتك بالشخص علاقة افتراضية تماما ولا تُقابله في حياتك الواقعية. بعد الحظر لا تنتهي العلاقة فحسب، بل قد ينسى كلا الطرفين بعضهما بعضا تماما. يُمكنك هنا أن تتأكد من الأمر من خلال تجربة بسيطة، افتح قائمة الأشخاص المحظورين لديك على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، هل تتذكر السبب أو الدافع الذي جعلك تحظر كل شخص في قائمتك؟ رُبما ستُفاجأ أنك لن تتذكر أنك قد تعاملت أو صادفت هذا الشخص من الأساس!
الاعتراف مقابل الاختفاء
يُمكننا الآن الانتقال إلى السؤال المنطقي التالي: هل دوما يمكن للانتقام أن يُشعرنا بهذا المذاق "الحلو"؟ للإجابة عن هذا السؤال يجدر بنا الاطلاع على نتائج الدراسة التي أجراها عالم النفس الألماني ماريو جولويتزر. طلب جولويتزر ومعاونوه من المشاركين خوض اختبار لغوي بالتزامن مع شريك (من القائمين على التجربة) يخوض الاختبار نفسه بشكل منفصل في غرفة أخرى، وفي كل مرة ينجح فيها الشريكان كلاهما في حل سؤال الاختبار بشكل صحيح يحصلان معا على تذكرة مكافأة بقيمة 25 يورو.
في نهاية التجربة، طلب الباحثون من المشاركين تقسيم المكافآت مع شركائهم فاختاروا اقتسامها بالتساوي تقريبا (النصف لكل شريك)، في حين اختار الشركاء (من القائمين على التجربة) تخصيص معظم المكافآت (90% تقريبا) لأنفسهم. عندما أُبلغ المشاركون بهذا القرار، أُتيحت لهم الفرصة لخفض حصة مكافآت شركائهم، وقد اغتنم نسبة من المشاركين هذه الفرصة على أكمل وجه، تاركين للشريك مكافآت أقل من حصة النصف العادلة التي أرادوا منحها لهم في البداية.
من الناحية العملية، كان قرار هؤلاء المشاركين انتقاما لتصرف الشريك الظالم في البداية. لكن في خطوة إضافية طلب جولويتزر من المشاركين كتابة رسالة للشريك، ووجد أن المشاركين الذين كتبوا رسائلهم أشاروا إلى الظلم الذي تعرضوا له، وعندما تلقوا ردا من الشريك يُفيد بأنه مُعترف بخطئه كانوا أكثر رضا من أولئك الذين لم يعترف شركاؤهم بالخطأ. يقول جولويتزر: "اعتراف الجاني بخطئه هو الذي يجعل الانتقام ذا مغزى، لأن المنتقم يرى غالبا أن انتقامه ينطوي على رسالة". لا يمكن أن يكون الانتقام مرضيا إذن إلا عندما يفهمه الجاني على أنه رد أو جزاء له على سلوكه السابق.(9)
في الواقع الافتراضي، لا يُحقق لك الحظر رضا كاملا، لأن الشخص لن يعترف لك بخطئه، لكنك مع ذلك تكتفي بالرضا لأنك "عاقبته"، ولأنك تُدرك أن الشخص سيعرف أنك حظرته ردا على سلوكه السابق أو تعليقه الذي لم يرق لك. رُبما تستعيض عن الاعتذار هنا بأن هذا الشخص سيختفي من عالمك الافتراضي إلى الأبد. يمكن اعتبار أن الرضا الذي يُحققه "اعتراف" الجاني بالخطأ يُقابله في العالم الافتراضي الرضا الذي يُحققه "اختفاء" الشخص من عالمك إلى الأبد.
وسيلة لحماية الذات
إذا نحينا مسألة الانتقام جانبا، فسنجد أن كثيرا من الناس يحظرون الآخرين على حساباتهم الاجتماعية بهدف حماية ذواتهم العاطفية، وذلك لأننا -نحن البشر- ببساطة مخلوقات اجتماعية وقبلية نستمتع بالوجود مع أولئك الناس الذين يؤيدون نظرتنا للعالم، فمهما تغنَّى الناس بحبهم للخلاف، فإنهم نادرا ما يرغبون في استنفاد طاقتهم في استكشاف وجهات نظر الآخرين المختلفين والتعايش معهم.
الحظر هنا يُتيح إمكانية الصمم المتعمد عبر الإنترنت الذي يكون أسهل بكثير من التعرض لوجهات النظر المختلفة والتفكير فيها. يمكن للأشخاص حجب أي وجهة نظر لا يريدون سماعها على الفور. من خلال الحظر، لا يتعين على الأشخاص أن يكونوا دبلوماسيين بشأن التعامل مع الشخص المختلف، وليس عليهم أن يشرحوا أسباب كونهم لا يوافقون على رأي معين، ولا يتعين عليهم تقديم الدوافع التي تدفعهم لاعتناق اعتقاد ما. كل ما عليهم هو النقر فوق زر "الحظر"، وهكذا يحتفظون بالأمان الافتراضي لعالمهم ويضمنون ألا تتعرض نظرتهم للعالم لخطر الطعن أو التغيير.(2)
————————————————————————–
المصادر:
2- The Psychology of Blocking Others Online
3- The pain of social rejection
4- Social rejection shares somatosensory representations with physical pain
5- Teasing, rejection, and violence: Case studies of the school shootings
6- The Complicated Psychology of Revenge
7- Emotion Elicits the Social Sharing of Emotion: Theory and Empirical Review
